إلى رحمة الله
العالم المتواضع والفقيه المتمكن والكاتب البارع
المفتي محمد ظفير الدين المفتاحي رحمه الله
بقلم : الأخ
محمد أبوبكر البورنوي
الطالب بقسم التخصص في الأدب العربي
بالجامعة
بينما كنتُ أكتبُ في حجرتي، والطلاب
والأساتذة كانوا يعكفون على الدراسة والتدريس في الفصول حوالي الساعة الرابعة
عصرًا من يوم الخميس: 25/ربيع الثاني 1432هـ الموافق 31/ مارس 2011م، ارتفع من
منائر الحرم الجامعي للجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند، صوتٌ حزين وهو نعي وفاة
العالم المتواضع والفقيه المتمكن والكاتب البارع المفتي محمد ظفيرالدين الدربنجوي،
إنا لله وإنا إليه راجعون.
لم يكد النعي يلامس أذنيّ حتى صعقني
صعقًا، وأخذ مني الحزن والأسى كلَّ مأخذ، وانسل القلم من يدي، وأصبحت شارد الذهن
حائرًا؛ وهدأت الحركة في الجامعة، وكل من الأساتذة والطلاب والموظفين كانوا حزانى
وآسفين، وممّا يزيدهم كآبةً أنّهم حُرِموا إلقاءَ نظرة الوداع الأخيرة على جثته في
هذه الدنيا الفانية، وحضورَ صلاة الميّت عليه، وتوريةَ جثمانه في مثواه الأخير، مع
الحب الشديد والحرص كلَّ الحرص؛ لعدم التمكن من ذلك بسبب وفاته بقريته «بوره
نوديها» من أعمال مديرية «دربنجا» بولاية «بيهار» التي كان بينها وبين الجامعة
بُعْدٌ بعيد، والتي كان يعيش فيها منذ حوالي ثلاث سنوات بعد استقالته من الجامعة
الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند، للعوارض والأمراض الناشئة عن الشيخوخة –
وقد أمضى فيها ثلاثًا وخمسين سنةً – فكان يُعزِّي بعضهم بعضاً بعيون عبرىٰ في هذا المصاب
العظيم، ويذكرونه بالخير ويعدون محاسنه، ويتلون القرآن الكريم، ويُهدُون الثوابَ
إلى روحه، ويدعون له أن يتقبل الله خدماته ويجزيه خير الجزاء، ويرفع درجاته.
وكان الشيخ – رحمه الله –
لدى وفاته في 88 من عمره بالقياس إلى التقويم الهجري وفي 85 من عمره بالنسبة إلى
التقويم الميلادي؛ حيث كان من مواليد 1344هـ/1826م.
وصلّى عليه بالناس الدكتور
«سعود عالم القاسمي الدربنجوي» الأستاذ في جامعة المسلمين عليجراه بمدينة
«عليجراه» بولاية «أترابراديش»، في الساعة التاسعة صباحًا من يوم الجمعة: 26/ربيع
الثاني 1432هـ الموافق 1/أبريل 2011م، ودفنوه بقطعة أرضية بالقرية على مقربة من
الكتاب الديني الذي كان قد أقامه الفقيد.
كان – رحمه الله -
يتفقّه في العلوم الشرعية، ويتعمق في التعاليم الإسلاميّة، ويطلع على الأوضاع
الراهنة، وكان له القدم السابقة في الخطابة، والقدح المُعَلّى في الكتابة، وكان
أسلوبه في كليهما طبيعيًّا، فليست فيه شائبة من التعمد والتصنّع والتكلف، ولم
يعتمد قطّ على ذلاقة اللسان ونصاعة البيان في الخطابة، ولم يتعمّد إعدادًا فكريًا،
ولم يُحضِّر تحضيريًّا نفسيًّا طويلاً لإجادة الكتابة؛ بل كان يخطب ويكتب بشكل
عفويّ ما يسحر السامعَ والقارئَ. وكان جمّ البساطة في جميع أمور الحياة: المسكن
والملبس، والمأكل والمشرب، محترزًا عن الزخارف والمَظاهر، متجنِّبًا الصيت
والشهرة، متقنًا للعلم، مخلصًا في العمل، مصيبًا في الرأي، حنينًا على من
تَعَلَّقَ به، محافظاً على الصلاة مع الجماعة مع الضعف وعوارض الشيخوخة، صافي
القلب سليمَ النيّة، حسن الخط، قليل التكلف، وبالجملة أنه تحلّى بالأخلاق الكريمة،
واتصف بالصفات الجليلة التي تستميل القلوبَ وتستهوي النفوسَ؛ فلذلك كان يحبه الناس
حبًا خالصًا صافيًا، ويستشيره كل من شاء متى شاء استثارته مع أبيه العطوف في ما
ابتُليَ به، فكان يُشِيْر عليه ما أصاب وأحسن، ولم يرجع منه قط أحد خائبًا، ولم
يَضيق به ذرعًا؛ لعذوبة كلامه، وحسن سيرته، وحَنانه وإخلاصه، ولم يبعد عنه من قرب
منه؛ بل كلما قرب منه أحد ازداد قربًا لخصاله الحميدة، ولم يَمَلَّ هو من ملتقيه
مع أشغاله الكثيرة. وأكبر مزاياه وأعظمها في نظر كل من رآه هو تواضعه، ونُكْران
ذاته، وقناعته وبُعده عن المال والمادّة، ونأيه عن كل ما يسيء إلى الناس.
وقد ناضل ضد الاستعمار الإنجليزي، ودوّن
مكتبةَ الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند أحسنَ تدوين يعكس ذوقَه السليم، ودوّن
فتاوىٰ للمفتي «عزيز الرحمان العثماني» المفتي الأسبق للجامعة، وبَوَّبها،
وراجعها، فصدرت في اثني عشر مجلَّدًا باسم «فتاوى دارالعلو/ديوبند» وألَّف كتبًا
كثيرةً ذات قيمة يبلغ عددُها زهاءَ أربعين، تدلّ على بصيرته الفكريّة، وفراسته
الإيمانيّة وحكمته الدينيّة، وتعمّقه في العلم، وسعة مطالعته، وترسّله في الكتابة،
ولم يشتغل طَوالَ عمره بأي عمل غير عمل علمي ودينيّ، وأمضى حياته يخدم الإسلام
والمسلمين. فجزاه الله خير الجزاء عنا وعن جميع المسلمين.
وُلِدَ
– رحمه الله – يوم 21/شعبان 1344هـ الموافق 7/مارس 1919م في قرية «بوره
نوديها» من أعمال مديرية «دربنجه» بولاية «بيهار».
والقرية تقع على ساحل نهر «كملا» على بعد
خمسة كيلومترات من مدينة «دربنجة» في الجانب الشرقي.
وتلقى العلوم الابتدائية في بيته، وفي «المدرسة
المحمودية» بدولة «نيبال» ثم التحق بمدرسة «وارث العلوم» بمدينة «جهبرا» في ولاية
«بيهار»؛ حيث كان يُدَرِّس ابن عمه أمير الشريعة الشيخ عبد الرحمان (المتوفى
1418هـ/1998م)، وتَعَلّم اللغة الفارسية والكتب العربية في المرحلة الثانوية بين
فترة 1933م وبين 1940م.
ودَرَس العلوم العالية في «مفتاح العلوم»
بمدينة «مئو» بولاية أترابراديش الهندية منذ 1940م إلى 1944م، وأخذ حظاً وافرًا من
العلوم النبوية والتعاليم الشرعية عن كبار العلماء: أمثال المحدث الكبير حبيب
الرحمان الأعظمي (1319هـ/ 1901م =1412هـ /1992) والعالم المتضلع القائد عبد اللطيف
النعماني المئوي (1315هـ/1899م = 1392هـ/1973م) والشيخ محمد يحيى الأعظمي، والشيخ
شمس الدين المئوي ومن إليهم.
وأمضى بعض الوقت في دارالعلوم ندوة
العلماء لكناؤ تَلَمَّذ على الشيخ الشاه حليم عطا، والشيخ محمد ناظم الندوي،
والشيخ محمد إسحاق السنديلوي، والشيخ حميد الدين وغيرهم.
وَدَرَّس إلى مدة سنة في
مفتاح العلوم/مئو إثر التخرج فيها عام 1944م، كما قام بخدمة التدريس في مدرسة
«معدن العلوم» بـ«نكرام» في مديرية «لكناؤ» منذ سبتمبر 1945م إلى ديسمبر 1947م. ثم
عُيِّن مدرِّسًا في دارالعلوم المعينيّة بقرية «سانحة» بمديرية «مونغير» - التي
تُعَدُّ في الوقت الحاضر من مديرية «بيغوسراي» - في يناير 1948م، وظلّ يُدَرِّس
بها إلى 1956م.
ثم حالفه حظه السعيد، وجاء دارالعلوم في
3/صفر 1376هـ الموافق 9/سبتمبر 1956م، وتولى مناصب عديدة قام بها خير قيام ثم
استقال بنفسه يوم الجمعة: 20/ شعبان 1429هـ الموافق 22/ أغسطس 2008م. وذلك لعوارض
ناشئة عن الشيخوخة.
مجلة الداعي الشهرية
الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد
: 9-10 ، السنة : 35